الدرس العاشر للسيد القائد عبدالملك بدرالدين الحوثي من وصية الإمام علي لابنه الحسن عليهما السلام( نص+فيديو )
الدرس العاشر للسيد القائد عبدالملك بدرالدين الحوثي من وصية الإمام علي لابنه الحسن عليه السلام 16-12-1444 هـ 04-07-2023 م
أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَأَشهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إلَّا اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ المُبين، وَأشهَدُ أنَّ سَيِّدَنَا مُحَمَّدًا عَبدُهُ ورَسُوْلُهُ خَاتَمُ النَّبِيِّين.
اللَّهُمَّ صَلِّ عَلى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّد، وَبارِكْ عَلى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّد، كَمَا صَلَّيْتَ وَبَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، وَارضَ اللَّهُمَّ بِرِضَاكَ عَنْ أَصْحَابِهِ الْأَخْيَارِ المُنتَجَبين، وَعَنْ سَائِرِ عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ وَالمُجَاهِدِين.
الَّلهُمَّ اهْدِنَا، وَتَقَبَّل مِنَّا، إنَّكَ أنتَ السَّمِيعُ العَلِيم، وَتُبْ عَليَنَا، إنَّكَ أنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيم.
أَيُّهَــــا الإِخْــــوَةُ وَالأَخَوَات:
السَّــلَامُ عَلَـيْكُمْ وَرَحْـمَــةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُــه؛؛؛
نستأنف الدروس في وصية أمير المؤمنين علي “عَلَيهِ السَّلَامُ”، لابنه الإمام الحسن “عَلَيهِ السَّلَامُ”. وقبل أن نواصل الحديث في ما تضمنته هذه الوصية المباركة، نتحدث عن أبرز التطورات، والبداية هي من السويد؛ فيما تكرر هناك من ارتكاب جريمةٍ فظيعةٍ وبشعة بإحراق المصحف الشريف، حيث تحولت هذه الممارسة الإجرامية التي تستفز العالم الإسلامي، وتسيء إلى أعظم المقدسات، تكررت هناك وتحولت هذه الممارسة إلى عملٍ مستمرٍ منظمٍ وممنهج، وواضحٌ أن وراءه الصهيونية العالمية (اللوبي اليهودي الصهيوني)، الذي يتلعَّب بالغرب من أمريكا إلى أوروبا، ويحرك الأنظمة والحكومات هناك، ويخترق الشعوب، كما يشاء ويريد، أصبح العالم الغربي مسرحًا ومرتعًا لمؤامراته ومكائده، التي يستهدف بها البشرية بشكلٍ عام، ويستهدف بها الأمة الإسلامية.
الإساءة إلى القرآن الكريم: هي إساءة إلى كل الرسل والأنبياء، وإلى كل كتب الله “سُبْحَانهُ وَتَعَالى”، وفي الغرب يسمحون بالإساءة المباشرة إلى الله “جَلَّ شَأنُهُ”، وإلى رُسُله كافةً، وإلى أنبيائه بشكلٍ عام، وإلى كل كتبه، والممنوع هو فقط كشف حقائق اليهود، أو الحديث عن جرائمهم، وفضائحهم، ومؤامراتهم، ضد المجتمع البشري، وهذا يكشف بوضوح مدى السيطرة اليهودية الصهيونية على أوروبا وأمريكا، ومدى النفوذ الكبير للوبي اليهودي الصهيوني هناك، فأن يكون الممنوع فقط هو الحديث بحقائق عن جرائم اليهود، عن تاريخهم المشين، عن مؤامراتهم ضد المجتمعات البشرية، ثم يكون المسموح: هو الإساءة حتى إلى الله “سُبْحَانهُ وَتَعَالى”، وإلى كل رُسُله وأنبيائه، هذا يدل بشكلٍ تام على هذه الحقيقة الواضحة.
للأسف الشديد رد الفعل في العالم الإسلامي لا يرقى إلى مستوى المسؤولية؛ أقدس المقدسات: وهو القرآن الكريم، يُساء إليه بتلك الطريقة، وجريمة الإحراق للمصحف جريمة رهيبة جدًّا، يُفترض بها أن تستفز كل إنسان مسلم، وأن يغضب لذلك، وأن يتألم لذلك، وأن يكون ذلك دافعًا له إلى أن يكون له موقف، هناك مواقف متاحة أمام العالم الإسلامي كأنظمة وحكومات، وهي في الحد الأدنى قطع العلاقات الدبلوماسية، والمقاطعة الاقتصادية، وهذه خطوة متاحة، ممكنة ومؤثرة، لو اتجه العالم الإسلامي، وهو دول كثيرة خمسين بلدًا، لو اتجهت كل هذه الدول إلى قطع علاقاتها الدبلوماسية بالسويد، وقاطعتها اقتصاديًا، هذا كان سيؤثر عليها، وسيكون درسًا لغيرها، نحن في اليمن ليس لنا علاقة دبلوماسية مع السويد، كان هناك دور محدود للسويد لاستضافة بعض جولات الحوار، وأبلغنا السويد بشكلٍ رسمي: أنه لا يمكن أن يبقى لها هذا الدور في استضافة أي جولات حوار أو ما شابه، كما أنه لن يكون لنا بها أي علاقة دبلوماسية ولا اقتصادية.
في صنعاء هناك قرار حاسم بمقاطعة البضائع التي تأتي من السويد وتنتجها السويد. نتمنى أن يكون هناك خطوات في العالم الإسلامي في بقية الدول العربية، ولو بهذا المستوى؛ لأنه إذا لم يكن هناك أي خطوة عملية، باستثناء البيانات من البعض حتى، وليس من الجميع، بيانات فيها عبارات للشجب والتنديد، فهذا لا يكفي، هذا أمر مؤسف جدًّا، بل ومخزنٍ للدول العربية.
أما الشعوب، فبإمكان الشعوب أولًا أن يكون لها صوت تعبر عنه، من لهم مشاركات وأنشطة في الشبكة العنكبوتية، في مواقع التواصل الاجتماعي، يستطيعون أن يكون لهم نشاط واسع يعبّر عن سخطهم، وغضبهم، وموقفهم، من يستطيعون الخروج في تظاهرات، ومسيرات، يستطيعون أن يفعلوا ذلك، أنشطة متنوعة تعبّر عن الأمة في موقفها.
ثم المقاطعة الاقتصادية: هي بوسع الشعوب، وفي متناول كل شخص من أبناء أمتنا، يستطيع أن يقاطع تلك المنتجات. والأمة الإسلامية أمة كبيرة، مقاطعتها الاقتصادية مؤثرة، نحن نقول عن أنفسنا أمة المليار مسلم! هؤلاء المليار مسلم، إذا اتجهوا لمقاطعة منتجات اقتصادية لبلد معين، ألن يؤثروا؟ بلى، بالتأكيد سيؤثرون، ولكن هذا يتطلب تعاملًا بمسؤولية مع مثل هذه الأمور المهمة. وما الذي بقي بعد الإساءة إلى كتاب الله “سبحانه وَتَعَالَى”؟ بعد الاستفزاز للمسلمين في القرآن الكريم، ما الذي ينتظره الناس ليكون لهم موقف، ليكون لهم صوت، لينطقوا، ليتكلموا، ليكتبوا، ليقولوا، ليعملوا حتى أبسط الخطوات التي لن تكلفهم شيئًا حتى.
مسألة البضائع السويدية هناك بدائل كثيرة لها، ويستطيع الناس أن يقاطعوها، وأي بلد أوروبي آخر يستطيع الناس أن يقاطعوا منتجاته، ولمصلحة الأمة أن تعتمد على نفسها في الإنتاج، كحلٍ بديل عن اعتمادها على منتجات أعدائها، الذين لا يحترمون مشاعرها حتى في كلمة.
المجتمع الغربي ليس فقط يحترم مشاعر اليهود الصهاينة، بل يعظمهم، يمنع أي كلمة فيها حديث عن حقائق من واقعهم، يمنع أي نشاط قد يكون فيه تظلُّم من جرائمهم في فلسطين وغير ذلك، فما بالك بواقع الأمة الإسلامية التي هي عدد كبير جدًّا ثم لا يقيم لها أي اعتبار، لا يقيم لها- المجتمع الغربي، الأنظمة الغربية، الحكومات، الشركات- أي اعتبار، يجب أن يكون هناك موقف، هذه مسؤولية أمام الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالى”.
ثم أيضًا من التطورات البارزة والمهمة: التصعيد الإسرائيلي في جنين. العدو الإسرائيلي منذ بداية تشكيل كيانه في أرض فلسطين كعصابات إجرامية، يمارس الجرائم والاعتداءات اليومية، ضد الشعب الفلسطيني العزيز، وبشكلٍ مستمر على مدى عقودٍ من الزمن، في وسط هذه الأمة، والتي شعب فلسطين جزٌء منها، وأرض فلسطين جزءٌ من منها أيضًا، وفيها مقدسات من أهم مقدساتها. منذ ذلك اليوم، منذ البداية وإلى الآن؛ لم يرتقِ الموقف العربي والإسلامي بشكلٍ عام إلى المستوى المطلوب بحجم المسؤولية، تجاه ما يحصل هناك من مظالم، وهذا ما مكَّن العدو الإسرائيلي من أن يعزز تواجده هناك، وأن يبني له كيانًا، ثم يتحول ذلك الكيان إلى عدو فاعل، يعلِّق عليه الغرب الأمل في دور أكبر وأخطر، على مستوى المنطقة بشكلٍ عام.
هناك توجهات ومواقف، واهتمامات إيجابية، ومواقف مشرِّفة للمجاهدين في فلسطين، للمجاهدين في لبنان، لمحور المقاومة الذي يدعم ويساند شعب فلسطين والمجاهدين في فلسطين، وهذا شيءٌ مهم، ويتنامى- إن شاء الله، ويصل إلى المستوى المطلوب بإذن الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، وهذا ما نأمله، وما نحرص عليه وما نسعى إليه، ولكن بالمنظور العام- على مستوى الأمة- مسؤولية الأمة تجاه ما يحصل هناك، هي مسؤولية أيضًا كبيرة.
وكذلك لم تتفعل مسألة المقاطعة للبضائع الإسرائيلية في كل البلدان العربية والإسلامية، بل هناك دول دخلت في جريمة التطبيع، والعمالة، والولاء لإسرائيل والتحالفات مع العدو الإسرائيلي، وأصبحت تستقبل البضائع الإسرائيلية، وتدخل في علاقات اقتصادية واسعة وكبيرة، بل تشارك في التمويل لما يدعم العدو الإسرائيلي في اعتداءاته على الشعب الفلسطيني، بما يمثل دعمًا حقيقيًا له في ذلك، وهناك دول تراجعت حتى عن مواقفها الروتينية الاعتيادية: من بيانات، من موقف دبلوماسي، تراجعت كثيرًا عن ذلك، ووصلت إلى مستوى التطبيع- إما السري، أو العلني- مع العدو الإسرائيلي.
لم يتجه السعودي مثلًا النظام السعودي لا تجاه السويد، ولا تجاه العدو الصهيوني، لأن يفعل ما فعله مثلًا مع قطر، هل سيفعل السعودي ما سبق أن فعله مع قطر يوم غضب على القطريين، وقطع كل علاقاته بهم، ومنع الأجواء السعودية عنهم، وتعامل معهم بموقف شديد، وهجمة إعلامية سلبية، إلى غير ذلك، مثل هذا الموقف يتخذه العرب ضد بعضهم البعض، مقاطعة، حزم وعزم، مواقف شديدة، وغلظة وفظاظة، وشدة، ولكن لا يصدر منهم مثل تلك المواقف تجاه أعداء هذه الأمة، لا تجاه ما حصل من إساءة إلى القرآن الكريم وإحراق المصحف الشريف، ولا تجاه ما يحصل في فلسطين المحتلة.
واجب الجميع: أن يكون لهم صوت واضح، أن يتحركوا وأن يدركوا أن المسؤولية هي مسؤولية مستمرة تجاه معاناة الشعب الفلسطيني واحتلال أرض فلسطين، علينا كأمة إسلامية كمسلمين، علينا مسؤولية دينية، أخلاقية، ليس فقط في الأوقات التي يشتد فيها التصعيد من العدو الإسرائيلي، في مثل هذه الظروف ينبغي أن يكون هناك وتيرة أكبر في التحرك الجادّ بكل الأشكال.
كان يُفترض من الأنظمة العربية والعالم الإسلامي بشكلٍ عام، أن يكون هناك نشاط دبلوماسي قوي ومكثف، وأن يكون هناك تحرك جاد، ودعم سخي للشعب الفلسطيني، الأنظمة العربية تمتلك الأموال الكثيرة التي تهدرها، إما فيما لا داعي له، فيما هو عبث، وإما فيما يضر بشعوب هذه الأمة، أو هو اعتداء على أبناء هذه الأمة، أو هو خدمة مباشرة لمصلحة أعداء هذه الأمة. أين هو الدعم السخي من دول الخليج مثلًا للشعب الفلسطيني من بقية الدول العربية! أين هو التعاون من الجميع والدعم الواضح من الجميع! هناك موقف ضعيف على مستوى الواقع العربي، على وجه الخصوص في المقدمة، أين هي حملات الحزم والعزم، وتلك العبارات الشديدة، واستعادة فلسطين إلى الحضن العربي، وإنقاذها من براثن الصهيونية اليهودية! لا شيء.
يجب أن يكون هناك استشعار للمسؤولية منّا جميعًا، وأن نسعى وأن نتحرك، نحن نأمل- إن شاء الله- من شعبنا العزيز أن يواصل نشاطه، وأن يكون مستمرًا في موقفه الواضح والبارز، تجاه هذه القضية، التي ينطلق في موقفه تجاهها على أساس مبدئيٍ، وإيمانيٍ، وأخلاقي. ونأمل -إن شاء الله- كما قلنا في إطار محور المقاومة كذلك: أن تتعزز حالة التنسيق والتعاون، ونحن دائمًا نؤكد على موقفنا الثابت والمبدئي تجاه هذه القضية والمظلومية الكبيرة والمؤلمة والمؤسفة.
كما أننا أيضًا ننظر بإجلال، وإعزاز، وتقدير، وإكبار، إلى ما يبذله الشعب الفلسطيني من جهود، وما يقدمه من تضحيات، وإلى صبر وعطاء المجاهدين في فلسطين في جنين، في الضفة الغربية بشكلٍ عام، في قطاع غزة، في كل أرجاء فلسطين، هناك جهد، هناك صبر، هناك تضحية، سيكون لها ثمرة بإذن “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، وتبقى المسؤولية علينا جميعًا: أن نكون دائمًا إلى جانب الشعب الفلسطيني ومجاهديه الأبطال، وأن ندعمه بكل ما نستطيع من أشكال الدعم المعنوي والمادي، وغير ذلك. أسأل الله أن يوفقنا لأن نرتقي في أداء هذه المسؤولية إلى المستوى المطلوب، الذي يبرئ الذمة أمام الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”.
وكنا وصلنا في الدرس إلى قول أمير المؤمنين “عَلَيهِ السَّلَامُ”: ((وَاعْلَمْ يَا بُنَيَّ أَنَّ أَحَدًا لَمْ يُنْبِىءْ عَنِ اللهِ سُبْحَانَهُ كَمَا أَنْبَأَ عَنْهُ الرَّسُولُ “صَلَّى الله عَلَيْهِ وَآلِهِ”، فَارْضَ بِهِ رَائِدًا، وَإِلَى النَّجَاةِ قَائِدًا، فَإِنِّي لَمْ آلُكَ نَصِيحَةً. وَإِنَّكَ لَنْ تَبْلُغَ فِي النَّظَرِ لِنَفْسِكَ- وَإِنِ اجْتَهَدْتَ- مَبْلَغَ نَظَرِي لَكَ)). لا يزال الحديث عن الأسس والمنطلقات المهمة قبل أن يدخل في بعضٍ من التوصيات العملية، والأخلاقية، والسلوكية، والأمور المتعلقة بظروف الحياة.
بدأ بالأسس الجامعة، والمنطلقات المهمة؛ لأنه من المهم في مسيرة حياتنا أن ننطلق على أُسس وعلى بصيرة ومن منطلقات صحيحة، حتى تبنى عليها التفاصيل التي تأتي في واقع الحياة.
من أهم هذه الأُسس: علاقتنا بالرسول “صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيهِ وَعَلَى آلِهِ”، والرسالة الإلهية. رسول الله وخاتم أنبيائه محمد “صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيهِ وَعَلَى آلِهِ”، أنبأ عن الله، أتانا برسالة الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، بكتابه الكريم، بتعليماته العظيمة والقيِّمة، فأنبأ عن الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” بشكلٍ تام، بما لم يُنبئ مثله؛ من عدة اعتبارات، من حيث كمال وتمام هذه الرسالة الإلهية التي أوصلها إلينا، القرآن الكريم: هو أعظم كُتب الله، والمهيمن عليها بكلها، وهو الذي حفظه الله ليبقى سليمًا من التحريف لنصه، وحفظه، وهذه معجزة كبيرة؛ ليبقى لكل الأجيال، إلى آخر أيام الدنيا، كما قال “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}[الحجر: 9]، ثم ضمَّنهُ من المعارف، والعلوم الواسعة، والهداية العجيبة، ما يفوق كل تصورنا، ما يشمل ما نحتاج إليه، فيما يتعلق بالدنيا، ولمستقبلنا في الآخرة، هداية واسعة جدًّا، معارف واسعة إلى حدٍّ مذهل ومدهش، كما قال الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” في القرآن الكريم: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِـمَاتُ اللهِ}[لقمان: من آية 27]، معارف واسعة جدًّا، قال عنه: {تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ}[النحل: من آية 89 ]، وهداية واسعة جدًّا، تشمل كل مجالات الحياة، كل ما يتعلق بنا في هذه الحياة، بمسؤولياتنا، ما نحتاج فيه إلى الهداية، ما نحتاج فيه إلى الدلالة على الخير، فهي هداية واسعة جدًّا، رسالة كافية، عندما نعود إليها فهي تقدم لنا كل ما نحتاج إليه من الهداية في كل مجالات الحياة.
الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” قال عن دينه المبارك: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا}[المائدة: من آية 3 ]، ليس هناك نقص؛ مثلًا نقول في الجانب السياسي: [هذا جانب أُغفل، أُهمل، لا نجد هدايةً بشأنه، نحتاج إلى البحث مما لدى الآخَرين من أطروحات، ورؤى، وفلسفة، تجاه هذا الجانب؛ لأن الله لم يقدم لنا شيئا في القرآن الكريم، ولا فيما بلَّغه رسوله، وأنبأ عنه به رسوله “صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيهِ وَعَلَى آلِهِ”، إذًا نحتاج إلى المفكرين الغربيين، والفلاسفة الأوروبيين، لنقتبس منهم رؤى، أطروحات، أفكار، مفاهيم]، أو نقول مثلًا عن الجانب الاجتماعي، نقول: [هذا الجانب أُغفل في القرآن الكريم، أُغفل في الرسالة الإلهية، لم يأتنا رسول الله “صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيهِ وَعَلَى آلِهِ” بشيء عنه، إذًا لابد لنا من أن نلتجئ اضطرارًا إلى فلاسفة الشرق أو الغرب، إما إلى الصين واليابان وتلك الدول، أو نحتاج إلى الأوروبيين والأمريكيين وغيرهم، أو أي مجال من المجالات]، لا نحتاج أبدًا. في القرآن الكريم فيما أنبأ به الرسول “صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ”، عن الله ما يكفي ويفي.
ورسول الله محمد “صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيهِ وَعَلَى آلِهِ”، مع كماله العظيم، مع ما منحه الله من الرشد، والفهم العميق، والبصيرة النافذة، والكمال العجيب، لم يقدم لنا آرائه الشخصية، آراءً شخصية أبتكرها هو، من بنات أفكاره، إنما أنبأنا عن الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، وهنا ندرك أهمية وعظمة ما قدمه الرسول “صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيهِ وَعَلَى آلِهِ”، فهو أتى به عن الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، عن ربنا العظيم، عن إلهِنَا، عن ملك السماوات والأرض، عن من {هُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}[الحديد : من الآية 3]، عن {أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ}[هود : من الآية 45]، عن المحيط {بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} [الطلاق :من الآية 12]، عن من {يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}[الفرقان :من الآية 6]، الذي يعلم بنا، هو خلَقنا وكوَّنَنا، ويعلم بنا، يعلم بكل خصائص النفس البشرية، هو الذي تولى تكوين هذه النفس البشرية وخصائصها، فهو “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” يعلم بما نحتاج إليه، ما يصلحنا، ما تصلح به حياتنا، ما هو من متطلبات حياتنا، هو الذي خلق لنا وسخر لنا ما في السماوات وما في الأرض، هو من يدبر شؤون السماوات والأرض وشؤون هذا العالم بكله، ولذلك ما أتانا عنه: أتانا من مصدر العلم والحكمة والرحمة، ما قدمه لنا من تشريعات، وتوجيهات، وتعليمات: من منطلق رحمته، وهو أرحم الراحمين “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”.
فما وصلنا: وصلنا عن الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، ما أنبأنا به الرسول، ما بلغ به الرسول محمد “صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيهِ وَعَلَى آلِهِ”، هو بلَّغ به عن الله، له أهمية عظيمة، ليس مجرد تحليل من صحفي، أو قراءة من مفكر، أو تنظير من منظِّر، بحسب ومستوى قدراته البسيطة والمتواضعة، ومعلوماته المحدودة، وأفكاره التي قد تكون صحيحة وقد تكون غير صحيحة.
البشر جربوا فلسفات معينة، وأطروحات معينة، وصنعت لهم بؤسًا وشقاءً كبيرًا، في المجال الاقتصادي جربوا الاشتراكية، وجربوا الرأسمالية، كلٌ منهما نتج عنه من المظالم، والبؤس، والمفاسد، والمعاناة، ما وصل إلى حدٍّ رهيبٍ جدًّا، وسبَّب بؤسًا كبيرًا في واقع المجتمع البشري في معظم البلدان. فلسفات، وأطروحات، ورؤى سياسية، تصنع أزمات كبيرة جدًّا، ينتج عنها مآسٍ وكوارث، في كثير من البلدان. حتى في عالمنا الإسلامي، قُدمت بدائل عن رؤية الإسلام، فنتج عنها مآسٍ كبيرة لشعوب أمتنا، على مدى قرون وليس عقود، قرون من الزمن.
وهكذا ندرك أهمية ما أتانا عن الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، وحاجتنا إليه؛ لأنه أتانا من مصدر العلم والحكمة والرحمة، من الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” العليم بكل شيء. وأيضًا ما يتعلق به: مسؤولية؛ لأنه لم يأتِ فقط كمقترحات تُقدم إلينا، مقترحات من الله، لنكون نحن أصحابَ القرار، فيما نعمل به منها ونقبله، وما لا نعمل به ولا نقبله. هي توجيهات من ربنا الذي نحن عبيده، نحن عبيدٌ له، توجيهاتٌ وتعليماتٌ من إلهنا، ونحن عبيدٌ له، توجيهاتٌ وأوامر من مَلِكِنا؛ مَلك السموات والأرض، ونحن في مملكته، يترتب على التعامل معها الجزاء والحساب، إن خيرًا فخير، وإن شرًا فشر، فهي ذات أهمية كبيرة، ولو تجاهلها الإنسان ولم يبالِ بها، ولم يعِرها أي اهتمام، لن يفيده ذلك، لن يعفيه ذلك عن النتائج، عما سيترتب على ذلك من العقوبات، هذا ما أتى به الوعيد في القرآن الكريم.
ثم أيضًا مع المحتوى الكامل والرشيد والعظيم لهذه الرسالة الإلهية، والتعليمات الإلهية القيِّمة في القرآن الكريم، وما بلَّغ به رسول الله محمد “صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيهِ وَعَلَى آلِهِ”، في كمالها، وأهميتها، ورشدها، وإيجابيتها في الحياة، وما يترتب عليها من جزاء، لا مثيل لها أيضًا من الأطروحات والبدائل الأخرى، ولا خيار أفضل منها، هي الأفضل، والأقوم، والأرشد، والأكمل، والأحسن، والأنفع، والمفيد للمجتمع البشري، فلها كل هذه المميزات، وتكتسب كل هذه الأهمية بكل هذه الاعتبارات.
والرسول “صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيهِ وَعَلَى آلِهِ”، أيضًا فيما بذله من جُهد في تبليغ هذه الرسالة، أنبأ بهذه الرسالة، وأوصل هذه التعليمات إلى المجتمع البشري، بكل جهد، بكل اهتمام، عمل ليلًا ونهارًا، تحرك بشكل مكثف وهو يبلغ عن الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، وثمرة ذلك الجهد وصلت إلى هذا العصر، لتصل إلى مختلف أرجاء الدنيا، وبروحية عظيمة، بروحية الحرص العجيب على هداية الناس، إلى الدرجة التي قال الله له فيها: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ}[الشعراء: 3]، كان يبذل كل جُهده، {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ}[التوبة: 128]، بروحية عظيمة مميزة.
((فَارْضَ بِهِ رَائِدًا، وَإِلَى النَّجَاةِ قَائِدًا))، أرضَ به، من واقع القناعة، والوعي، والبصيرة، والفهم، والاطمئنان، والثقة، إلى أنه الرائد الذي يتجه بك إذا اتبعته، إلى السعادة، إلى الفلاح، إلى الخير، إلى الفوز، لن تخسر عندما تتبعه، عندما تتمسك به، عندما تتأسى به، لن تخسر، يصل بك إلى السعادة، إلى الخير، يصل بك إلى أن يتحقق لك في هذه الحياة: سموُّك الإنساني، شرفك الإنساني، كمالك الإنساني، حياتك الطيبة التي تكون شرفًا لك، وفضلاً لك، وخيرًا لك، وتتحقق نتائج مهمة في هذه الحياة، منها: العزة والكرامة، ونتائج ذات أهمية كبيرة، وفي الآخرة: الفوز العظيم، السعادة الأبدية، النجاة من عذاب الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، الأمن والاطمئنان يوم الفزع الأكبر، نتائج كبيرة للغاية.
ولذلك يجب أن تكون علاقتك بالقرآن الكريم والإسلام كمنهج حياة، وبالرسول كقائد وقدوة وأسوة: مسألةً محسومة، تبني عليها مسيرة حياتك، وتتجه بكل جدّ على أساسها، لستَ ذلك الذي يبحث من وراء ذلك عما يتلقفه من أطروحات، وفلسفات، وأفكار، وتصورات، من جاهلية الغرب، الكافر، أطروحات أخرى 100% تتعارض مع مفاهيم هذا الدين، مع رؤاه الحقيقية، مع حقائق القرآن الكريم التي هي من الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”.
((فَارْضَ بِهِ رَائِدًا، وَإِلَى النَّجَاةِ قَائِدًا))، هو يقودك إلى النجاة في الدنيا والآخرة. ومسألة العلاقة بالرسول والرسالة والكتاب؛ كتاب الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”: مسألة مهمة جدًّا، أن يكون الإنسان في إطارها، قد اتخذ قرارًا حاسمًا بأن يبني مسيرة حياته على أساسها؛ لأن الواقع في أمتنا الإسلامية، أن هناك نقص وعي في مفهوم الانتماء لهذا الدين، فترى الكثير من أبناء هذه الأمة، ممن ينتمون إلى الإسلام، لكن كيف هي نظرته إلى الرسالة الإلهية، إلى الرسول والقرآن: نظرة فيها جفاء كبير، هو ينبهر بالغرب وما يأتي من الغرب من أفكار، من أطروحات، من فلسفة، في الأمور السياسية، والاجتماعية، ومجالات الحياة الهامة، غير المسائل العلمية التجريبية، غير مسألة الفيزياء، والكيمياء، وتلك العلوم، غير هذه المسألة، الأطروحات، الفلسفة، الأفكار، الرؤى، هو يرى فيها أنها الأكمل من كتاب الله، أنها الأرقى مما ورد في القرآن، مما ورد عن الرسول “صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيهِ وَعَلَى آلِهِ”، ولذلك يتأثر بها، ويسعى، ويكافح، ويبذل الجهد؛ للإقناع بها في الساحة الإسلامية، يعني هو يطّلع عليها، يتأثر بها، يجلبها، يروج لها، يسعى إلى إقناع الآخرين بها، وليس له هذه الصلة، هذه العلاقة، هذا الارتباط بحقائق القرآن الكريم، بتعليمات الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، بما قدمه الرسول والقرآن بشأن مختلف المجالات. هذه مشكلة، يعني هناك مشكلة حقيقية في هذه العلاقة.
((فَارْضَ بِهِ رَائِدًا، وَإِلَى النَّجَاةِ قَائِدًا))، هو يقودك إلى النجاة، وهناك أيضًا إلى جانب أن تلك التعليمات من الله، وأتى بها رسول الله “صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيهِ وَعَلَى آلِهِ” بكل أمانة، وبلَّغها بكل أمانة، وبجدٍّ واهتمام، قدَّم لها أيضًا النموذج التطبيقي، وهذه نقطة من أهم الأمور، وللأسف لم تحظَ بالاهتمام في واقع أمتنا؛ لا من مفكرين، ولا من فلاسفة، ولا من علماء، ولا من غيرهم: من مثقفين، بالشكل المطلوب، بالشكل الكافي.
رسول الله “صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيهِ وَعَلَى آلِهِ” عندما تحرك بالرسالة الإلهية، بما فيها من مبادئ، وقيم، وتعليمات، وتوجيهات، وإرشادات، حقق في الواقع نقلةً هائلةً جدًّا، مع أنه واجه الصعوبات الكبيرة، وعمِل في واقع معقد، فيه الكثير من التعقيدات، وفي ظروف بالغة الصعوبة، وواجه مشاكل كبيرة جدًّا، وبدون إمكانات مادية، تحرك بدون إمكانات مادية، وتحرك بمن؟ تحرك منذ البداية، وأغلب القلة القليلة ممن تحركوا معه، آمنوا به، استجابوا له، آمنوا بهذه الرسالة، أكثرهم؛ وهم قلة من حيث المجموع، أكثر تلك القلة من المستضعفين، ومع ذلك حقق نقلةً كبيرةً جدًّا، نقلةً هائلة، أحدثت تغييرًا لا مثيل له في أي تجربة من تجارب البشر في ماضي التاريخ الذي وصل إلينا.
المتغيرات العجيبة التي صنعها، التأثير الكبير الذي صنعه: تأثير عظيم جدًّا، والنجاح الكبير الذي حققه أيضًا: مسألة واضحة جدًّا، وأضف إلى ذلك: أنه بقي أثر ذلك تلك النتائج ممتدًا في المجتمع البشري، ويبقى ممتدًا إلى قيام الساعة.
التجربة تلك الناجحة، التي عالجت مشكلات متنوعة، مشكلات سياسية، مشكلات اجتماعية، مشكلات أخلاقية، مشكلات اقتصادية، مختلف المشاكل التي كانت موجودة في واقع المجتمع آنذاك، في مختلف المناطق والبلدان. فكان للإسلام أثره في أن يغيِّر إلى حدٍّ كبير، ولو في ظروف معينة محدودة، لكن قد حصل ما يشهد بوضوح للإيجابية الكبيرة لذلك المنهج الإلهي، وللنجاح الكبير الذي حققه رسول الله “صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيهِ وَعَلَى آلِهِ” عندما تحرك على أساس ذلك المنهج.
فما أحوجنا اليوم، وما أحوج النُّخَب من أبناء أمتنا، إلى أن يلحظوا هذه العبارة: ((فَارْضَ بِهِ رَائِدًا))، اِرضَ. عندما تتأمل، عندما تفهم، سترضى، قد تكون بعيدًا عن الرضا بذلك، وأنت تبحث عن البدائل هنا وهناك؛ لأنك لم تستبعد بالشكل المطلوب.
((فَإِنِّي لَمْ آلُكَ نَصِيحَةً))، يعني لم أقصِّر في نصحك. ((وَإِنَّكَ لَنْ تَبْلُغَ فِي النَّظَرِ لِنَفْسِكَ- وَإِنِ اجْتَهَدْتَ- مَبْلَغَ نَظَرِي لَكَ))، قد يفكر الإنسان ويقول: [أنا سأنظر لنفسي]، وقد تكون منطلقاتك وأنت تنظر لنفسك إما منطلقات محدودة، ومشوشة، وغير صحيحة، وإما قد تكون أيضًا من زاوية ضيقة، أو من منظور محدود.
ما قدَّمه لنا أمير المؤمنين “عَلَيهِ السَّلَامُ” في هذه الوصية من نصائح، من إرشادات، من تعليمات، قدمها من واقع تجربته العظيمة، وعيه العالي، معرفته الكبيرة، علمه العظيم، إخلاصه، استيعابه للواقع، فهمه العميق. ولذلك مهما كان مبلغ نظرنا لأنفسنا؛ بمعرفتنا المحدودة، بالمؤثرات التي تؤثر علينا في أنفسنا، في اهتماماتنا، في حساباتنا، في تقديراتنا للأمور، فسيبقى ما لدينا محدودًا، محدودًا بشكلٍ كبير. أمّا ما قدَّمه أمير المؤمنين، فلن نبلغ- مهما نظرنا لأنفسنا- مبلغ نظره لنا، هذه نقطة مهمة؛ لأن الإنسان قد يغتر بنفسه، البعض من الناس عنده بعض مشاعر الغرور، لا يعرف قدر نفسه، فهو يتَّكِل على نفسه، فيقول: [أنا سأنظر إلى لنفسي بنفسي، لن أحتاج إلى هذه النصائح، ولا إلى هذه التعليمات، ولا إلى غير ذلك].
((وَاعْلَمْ يَا بُنَيَّ))، في كل هذا يقول: ((وَاعْلَمْ))، يحتاج الإنسان إلى العِلم؛ حتى يمتلك هذه الرؤية، ويقتنع بها، وبالتالي يتأثر بذلك، يظهر أثر ذلك في اهتماماته وفي واقعه.
((وَاعْلَمْ يَا بُنَيَّ، أَنَّهُ لَوْ كَانَ لِرَبِّكَ شَرِيكٌ لَأَتَتْكَ رُسُلُهُ، وَلَرَأَيْتَ آثَارَ مُلْكِهِ وَسُلْطَانِهِ، وَلَعَرَفْتَ أَفْعَالَهُ وَصِفَاتِهِ، وَلَكِنَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ كَمَا وَصَفَ نَفْسَهُ، لَا يُضَادُّهُ فِي مُلْكِهِ أَحَدٌ، وَلَا يَزُولُ أَبَدًا وَلَمْ يَزَلْ، أَوَّلٌ قَبْلَ الأَشْيَاءِ بِلَا أَوَّلِيَّةٍ، وَآخِرٌ بَعْدَ الأَشْيَاءِ بِلَا نِهَايَةٍ. عَظُمَ عَنْ أَنْ تَثْبُتَ رُبُوبِيَّتُهُ بَإحَاطَةِ قَلْبٍ أَوْ بَصَرٍ. فَإِذَا عَرَفْتَ ذلِكَ فَافْعَلْ كَمَا يَنْبَغِي لِمِثْلِكَ أَنْ يَفْعَلَهُ فِي صِغَرِ خَطَرِهِ، وَقِلَّةِ مَقْدِرَتِهِ، وَكَثْرَةِ عَجْزِهِ، وَعَظِيمِ حَاجَتِهِ إِلَى رَبِّهِ، فِي طَلَبِ طَاعَتِهِ، وَالْخَشْيَةِ مِنْ عُقُوبَتِهِ، وَالشَّفَقَةِ مِنْ سُخْطِهِ، فَإِنَّهُ لَمْ يَأْمُرْكَ إِلّا بِحَسَنٍ، وَلَمْ يَنْهَكَ إِلّا عَنْ قَبِيحٍ)).
مبدأ التوحيد: أن نؤمن أنه لا إله إلا الله، هو المبدأ المهم، المبدأ الأول، المبدأ الأساس، الذي تُبنى عليه كل العقائد، كل المبادئ، كل التفاصيل. واستيعاب هذا المبدأ بالشكل المطلوب له أهمية كبيرة جدًّا في الواقع العملي، ويتجلى مدى استيعاب الإنسان لهذا المبدأ في واقعه العملي التفصيلي: في مواقفه، في مسيرة حياته، في توجهه العملي. فالإنسان قد يُقِرّ بهذا المبدأ، وهذه قضية أساسية في الإسلام، في انتمائك للإسلام لابد أن تشهد أنه لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله.
لكن أكثر من الإقرار: العلم، والاستيعاب لهذا المبدأ بالشكل المطلوب، أنه لا إله نعبده، نعبِّد أنفسنا له، نرجوه، نخضع له، نُقِرّ ونؤمن، ونستوعب بأنه ملك السماوات والأرض، المدبر لشؤون السماوات والأرض، الذي يجب أن نرغب إليه، وأن نرهب منه، وأن نرجوه، وأن نرجع إليه، وأن نلتجئ إليه، وبيده شؤون السماوات والأرض، وشؤون خلقه أجمعين، لا إله إلا الله، فهو ملجأنا، ملاذنا، نعبده، نخضع له، نطيعه، هذه مسألة مهمة جدًّا: معرفة ما يترتب على هذا الإيمان من آثار في الواقع العملي، ما يرتبط به على المستوى العملي من التزامات، هذه مسألة مهمة جدًّا.
((لَوْ كَانَ لِرَبِّكَ شَرِيكٌ لَأَتَتْكَ رُسُلُهُ))، لو كان هناك شريك في الألوهية؛ إله آخر، لأرسل رُسلًا. الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” لأنه الإله؛ أرسل رسله إلى عباده، فأين الرسل؟ هل هناك رسل لإله آخر؟ لا، ليس هناك أي رسل لإله آخر، لأنه لا إله إلا الله.
((وَلَرَأَيْتَ آثَارَ مُلْكِهِ وَسُلْطَانِهِ))، على مستوى الخلق والتكوين، لرأيت آثار ملكه، ولرأيت آثار سلطانه؛ لأنه عندما نتأمل في واقع الكون بكله، كل ما قد عرفه الإنسان من المجرات وهذا الكون الهائل: محكوم بنظامٍ وتدبيرٍ واحد، ونظامٍ واحد، من مدبِّرٍ واحد، وهذه مسألة معروفة علميًا بشكل قاطع، فهذا العالم الذي هو بكله لمدبِّرٍ واحد، وبنظامٍ واحد، ويرجع في تكوينه إلى إلهٍ واحد، شاهدٌ على أنه “لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ”، وأنه لا شريك له أبدًا.
((وَلَعَرَفْتَ أَفْعَالَهُ وَصِفَاتِهِ))، لكان هناك تجلِّيات ومظاهر لأفعاله، لملكه، لتدبيره، لَما كان مجهولًا ومغمورًا لا أثر له، ولا لخلقه، ولا لتدبيره، ولا لرسله، ولا لشيءٍ منه، بل لاستفزه أن يكون هناك شهادة أن لا إله إلا الله، والمسلمون في كل أرجاء الدنيا في أذانهم، في صلاتهم، في مناسباتهم، يشهدون أن لا إله إلا الله، ويعلنون أن لا إله إلا الله، لاستفزّه ذلك، ولقال: [لا، بقي واحد ثاني، كيف تنكرونني أنا]، لكنه فعلًا: لا إله إلا الله، ولذلك ليس هناك في هذا الكون بكله، بأجمعه، ولا فيما يرتبط به من تدبير أي مظاهر، أو تجلِّيات، أو دلائل لإلهٍ آخر، كلها لإلهٍ واحد هو الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
((وَلكِنَّهُ إِلهٌ وَاحِدٌ كَمَا وَصَفَ نَفْسَهُ، لَا يُضَادُّهُ فِي مُلْكِهِ أَحَدٌ))، ولهذا في شؤون تدبير هذا الكون؛ جعل الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ” نُظُمًا معينة، لم يستطع أحدٌ أن يغيّرها، عندما قال نبي الله إبراهيم، قال لذلك الطاغية المجرم: {فَإِنَّ اللهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْـمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْـمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ }[البقرة : من الآية 258 ]، لا يستطيع أحد أن يغيّر هذه النُظُم التي وضعها الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، وأدار بها وحرك بها هذا العالم، بقدرته “جَلَّ شَأنُهُ”، كلها تمشي على العباد، كلها ماضية في واقع العباد، حياة، موت، كل ما رسم به واقع هذه الحياة- في تكوينه وتدبيره- ماضٍ في هذا العالم، لا أحد يستطيع أن يغيّر منه.
((وَلَا يَزُولُ أَبَدًا وَلَمْ يَزَلْ))، لا تقل: [الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، سينتهي وجوده في عام كذا، أو في مرحلة معينة، أو سُلطانه على هذا العالم إلى مرحلة معينة، سُلطان مؤقت]، ليس كذلك. هو “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” ((وَلَا يَزُولُ أَبَدًا وَلَمْ يَزَلْ)).
((أَوَّلٌ قَبْلَ الأَشْيَاءِ بِلَا أَوَّلِيَّةٍ))؛ لأنه لم يسبق وجودَه عدم، {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}[الحديد : 3]، ((وَآخِرٌ بَعْدَ الَأشْيَاءِ بِلَا نِهَايَةٍ))، لا نهاية له.
((عَظُمَ عَنْ أَنْ تَثْبُتَ رُبُوبِيَّتُهُ بَإحَاطَةِ قَلْبٍ أَوْ بَصَرٍ))، مظاهر ربوبيته، ودلائل ربوبيته الواسعة في هذا الملكوت العظيم الواسع جدًّا، الذي يَستَحِيل أن يحيط به قلبٌ أو بصر.
((فَإِذَا عَرَفْتَ ذلِكَ فَافْعَلْ كَمَا يَنْبَغِي لِمِثْلِكَ أَنْ يَفْعَلَهُ فِي صِغَرِ خَطَرِهِ، وَقِلَّةِ مَقْدِرَتِهِ، وَكَثْرَةِ عَجْزِهِ، وعَظِيمِ حَاجَتِهِ إِلَى رَبِّهِ))، ثمرة هذه المعرفة ليست مجرد الإقرار، إنما هي فعل، هي عمل، هي سلوك، هي مسيرة حياة، وهذا هو معيار لمدى استيعاب الإنسان لهذا المبدأ المهم، ((فَإِذَا عَرَفْتَ ذلِكَ))، لا يكفي أن تقول: [صح، هذا كذلك، هو كذلك، الموضوع هو كذلك]، مجرد الإقرار لا يكفي، أو أن تضع علامة صح على الموضوع. المسألة لها أهميتها الكبيرة في موقفك أنت، في توجُّهك أنت، في مسيرة حياتك أنت.
((فَإِذَا عَرَفْتَ ذلِكَ فَافْعَلْ كَمَا يَنْبَغِي لِمِثْلِكَ أَنْ يَفْعَلَهُ))، وأنت تعرف من أنت، أنت عبدٌ لله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، هو الذي خلقك، هو الذي فطرك، هو الذي سواك، هو الذي وهبك الحياة، هو الذي يرزقك في هذه الحياة، هو المدبِّر لشأنك، وإليه مصيرك، وأنت عبده الضعيف العاجز، المفتقر إليه في كل شيء، وهو ربك العظيم، {رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}، مَلِك السماوات والأرض، إله السماوات والأرض، {رَبِّ الْعَالَمِينَ}، من {هُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}، و{بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}، {وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ}، فاعرف عن عظمة مُلك الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” ما تستطيع أن تستوعبه، وإلا هو أمرٌ عظيم، لا يحيط به قلبٌ ولا بصر، لكن بقدر ما تستوعب من ذلك، ثم تنطلق على أساس ذلك في تعاملك مع الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، كيف يكون تعاملك، و أنت العبد الضعيف، العاجز، الذليل، الفقير إلى لله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، المحتاج إليه في كل شيء، ((فَافْعَلْ كَمَا يَنْبَغِي لِمِثْلِكَ أَنْ يَفْعَلَهُ فِي صِغَرِ خَطَرِهِ))، يعني قدره، فاعرِف قدرك كإنسان ضعيف عاجز.
الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” هو الذي وهبك الحياة، هو “جَلَّ شَأنُهُ” الذي قال عن نفسه: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}[آل عمران: 26]، {هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ}[الذاريات :من الآية 58]، {هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ}[الذاريات : من الآية 163]، هو الذي تحتاج إليه في كل شيء، ولا تملك في هذه الحياة؛ من كل ما لديك: في نفسك، وفي بدنك، وفي حواسك، وفي واقعك، إلا بقدر ما أعطاك، ولا يبقى لك إلا بقدر ما يريد، ثم ينتهي ذلك. أنت في غاية الاحتياج إلى الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ}[فاطر: 15] .
((وَقِلَّةِ مَقْدِرَتِهِ))، ما أقلّ مقدرتك، وما أكثر عجزك، ما أكثر ما تعجز عنه من الأمور. لو تفكر أنت في نفسك، لو تفكر في نفسك، ما أكثر ما تعجز عنه، وما أقلّ ما تقدر عليه، ((وَعَظِيمِ حَاجَتِهِ إِلَى رَبِّهِ))، فإذًا: أنت الفقير إلى الله، أنت المحتاج إلى الله، أنت الفقير إليه في كل شيء، في الهداية، في التوفيق، في العون، فيما تسعى للحصول عليه من منفعة، أو لدفعه عن نفسك من مضرة في كل شيء، اسعَ من موقعك في العبودية والافتقار إلى الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، اسعَ في طلب طاعته، والخشية من عقوبته، لا تتجرأ على الله، لا تتجرأ على معصيته، والإصرار على معصيته، اخشَ على نفسك من عقوبة الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، أنت العبد العاجز الضعيف، هل تستطيع أن تدفع عن نفسك العقوبة من الله؟ أشفِق على نفسك من الوقوع فيما يسخطه؛ لأنك إن فعلت ذلك: عرَّضت نفسك للخسارة، للشقاء، للهوان، للضياع، للخسارة الرهيبة، للعذاب العظيم، بما لا تستطيع أن تنقذ نفسك منه.
ثم انظر بإيجابية إلى أوامر الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، وتوجيهاته، ومناهيه، ((فَإِنَّهُ لَمْ يَأْمُرْكَ إِلّا بِحَسَنٍ))، ما أمَرك الله به من الأوامر هو حَسَن، باعتبار أنه: الموافق للحق، الموافق للحكمة، وفيه كمالٌ لك، فإذا التزمت به، وعملت به، فهو مقتضى الحكمة، مقتضى الخير، مقتضى الحق، وهو كمالٌ بالنسبة لك، وشرفٌ بالنسبة لك، ثم فيه الخير لك، فيه الصالحُ الحقيقي لك، فيه الجزاء الحسن لك، فيه العاقبة الطيبة لك.
((وَلَمْ يَنْهَكَ إِلّا عَنْ قَبِيحٍ))، ما نهاك الله عنه، وحرَّمه عليك، هو قبيحٌ، أنت بحاجة إلى أن تتركه، أن تحذر منه؛ لأنه قبيحٌ في نفسه، يخالف مقتضى الحق، والحكمة، والخير، والرشد، بل هو يشينك، يسيء إليك، يسيء إلى إنسانيتك، وفيه مضرَّة لك، فيه نتائج سيئة عليك، وله عواقب خطيرة عليك، ثم جزاؤه الخطير عليك، ولذلك ندرك أهمية مبدأ التوحيد في أن نربط بينه وبين الواقع العملي، والقرآن الكريم ركَّز على هذا في آيات كثيرة، يقول الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” مخاطبًا لنبيه “صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيهِ وَعَلَى آلِهِ”: {اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ}[الأنعام: 106]، فنجد كيف رتَّب مسألة الاتباع- لما أوحى الله إليه- على مبدأ التوحيد؛ لأنه: {لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ}، فمنهجه أحقّ بالاتباع. لماذا ترفض منهجه، وتقبل منهجًا بديلًا عنه، مخالفًا له، وأنت تؤمن أنه {لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ}! أليس هو الذي له حق الأمر والنهي فيك، أكثر من أي جهة أخرى، أو شخص أخر، أو طرف آخر؟ فلماذا تختار معصيته، واتباع ما يخالف منهجه؟! لأن ذلك يدل على عدم استيعابك لهذا المبدأ العظيم المهم.
يقول أيضًا: {قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ}[الرعد: من الآية 30]، وهكذا أيضًا {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ}، هو من أتوكل عليه؛ لأنه ربي، ولأنه لا إله إلا هو، {فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُلْ حَسْبِيَ اللّهُ لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ}[التوبة: 129]، يقول أيضًا: {وَأَن لاَّ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ فَهَلْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ}[هود : من الآية 14]، {أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ}[النحل : 2]، فرتَّب مسألة الإسلام لله، التقوى لله، على هذا الأساس، على أساس مبدأ التوحيد، فهو مبدأ نحتاج إلى أن نستوعبه.
ومن أكثر ما أثر علينا في واقعنا الإسلامي: هو التعامل الروتيني، الاعتيادي، مع الأمور المهمة، فلم نستوعبها بالمقدار الذي ينبغي، ولم نستفد منها بالمقدار الذي ينبغي، ولذلك لابد أن نراجع فهمنا، ومقدار فهمنا لهذه الأُسس، لهذه المبادئ، وأن نقيِّم مدى استيعابنا لها بالنظر إلى واقعنا، إلى تأثُّرنا بها في أنفسنا، وفي واقعنا، وفي أعمالنا؛ لأن هذا هو المعيار الذي يبيّن لنا مدى الاستفادة الفعلية والحقيقية.
يقول “عَلَيهِ السَّلَامُ”: ((يَا بُنَيَّ، إِنِّي قَدْ أَنْبَأْتُكَ عَنِ الدُّنْيَا وَحَالِهَا، وَزَوَالِهَا وَانْتِقَالِهَا، وَأَنْبَأْتُكَ عَنِ الْآخِرَةِ وَمَا اُعِدَّ لِأَهْلِهَا فِيهَا، وَضَرَبْتُ لَكَ فِيهِمَا الأَمْثَالَ، لِتَعْتَبِرَ بِهَا، وَتَحْذُوَ عَلَيْهَا. إِنَّمَا مَثَلُ مَنْ خَبَرَ الدُّنْيَا كَمَثَلِ قَوْمٍ سَفْرٍ، نَبَا بِهِمْ مَنْزِلٌ جَدِيبٌ، فأَمُّوا مَنْزِلًا خَصِيبًا، وَجَنَابًا مَرِيعًا، فَاحْتَمَلُوا وَعْثَاءَ الطَّرِيقِ، وَفِرَاقَ الصَّدِيقِ، وَخُشُونَةَ السَّفَرِ، وَجُشُوبَةَ الْمَطْعَمِ، لِيَأتُوا سَعَةَ دَارِهِمْ، وَمَنْزِلَ قَرَارِهِمْ، فَلَيْسَ يَجِدُونَ لِشَيْءٍ مِنْ ذلِكَ أَلَمًا، وَلَا يَرَوْنَ نَفَقَةً فِيه مَغْرَمًا، وَلَا شَيْءَ أَحَبُّ إِلَيْهِمْ مِمَّا قَرَّبَهُمْ مِنْ مَنْزِلِهِمْ، وَأَدْنَاهُمْ مِنْ مَحَلَّتِهِمْ)).
وأيضًا يقدّم رؤية مهمة جدًّا فيما يتعلق بواقع الدنيا والآخرة، وهو أيضًا ما يجب أن يمتلك الإنسان تجاهه رؤية راسخة، واعية، صحيحة، ويبني عليها، في مسيرة حياته، في مواقفه، في أعماله، في اهتماماته، في أولوياته.
من الواضح أن الأغلب في واقع الناس، في واقع الأكثر من الناس: هو أنهم جعلوا كل أولوياتهم متجهة نحو الاهتمام بشؤون هذه الحياة، مع غفلة تامة، أو شبه تامة عن الآخرة، يعني لم يحسبوا حساب مستقبلهم في الآخرة، واتجهوا بكل اهتماماتهم وأولوياتهم نحو متطلبات هذه الحياة، ورغباتهم في هذه الحياة، وأهوائهم في هذه الحياة، ولم يحسبوا حساب ما سيؤثِّر على مستقبلهم في الآخرة، كل همِّهم ما يمكن أن يحصلوا عليه في هذه الحياة من رغبات وأهواء، سواءً كان مؤثرًا على مستقبلهم في الآخرة أم غير مؤثر، هذا هو حال الأكثر من الناس؛ لأنهم لم يمتلكوا الرؤية الصحيحة بقناعة، ووعي، وفهم صحيح، ثم انطلاقة صحيحة على أساسٍ من ذلك. وهذه قضية خطيرة جدًّا على الإنسان؛ لأنه عندما يفرِّط في مستقبله الآتي حتمًا، مستقبله في الآخرة، المستقبل المهم، الكبير، الذي فيه أعظم نعيم وللأبد، وأشد وأشقى عذاب وللأبد. فعندما يفرِّط، فهو تفريط رهيب جدًّا، خسارة رهيبة للغاية، قضية خطيرة جدًّا على الإنسان.
فأمير المؤمنين “عَلَيهِ السَّلَامُ”، قدَّم في هذه الوصية: التنبيه على أنه يجب أن ندرك حقيقة هذه الحياة، أن ننظر بشكل واقعي وحقيقي وصحيح إلى هذه الحياة، فنعرف عنها أنها حياة مؤقتة، محدودة، ما يمكن أن نحصل عليه فيها شيء محدود، لا يتحقق لنا فيها ما نرغب به بشكلٍ تام، وما أكثر ما يحصل على الإنسان في هذه الحياة مما لا يرغب به أصلًا، وما أكثر ما يكابده الإنسان ويعانيه في هذه الحياة، مما يتمنى السلامة منه أصلًا. فلينظر الإنسان بواقعية إلى هذه الحياة، ما يمكن أن يحصل عليه فيها هو شيءٍ محدود، وهي بذاتها مؤقتة، وما تحصل عليه فيها تحصل عليه مع منغصات، ويشوبه الكَدَر، ثم هي زائلة، أنت منتقلٌ عنها حتمًا. والآخرة كذلك حياة لابد منها، وحياة مهمة، وحياة قادمة، أنت منتقلٌ إليها، وهي للأبد، والذي أُعِدَّ فيها هو شيءٌ عظيم، شيءٌ كبير، شيءٌ مهم، كيف يخرج عن اهتمامك؟! ألَا تحسب حسابه، في الخير والشر؟! أمر رهيب جدًّا، وكبير جدًّا.
((وَضَرَبْتُ لَكَ فِيهِمَا الَأَمْثَالَ))؛ لأن الأمثال: تقرب للإنسان التصور للحقيقة، والاستيعاب للموضوع بطريقة تُخيِّل له الحقيقة، وتجسِّد له الحقيقة بشكل معين، فيستوعب الموضوع أكثر. ((لِتَعْتَبِرَ بِهَا، وَتَحْذُوَ عَلَيْهَا))؛ لأن هناك الكثير من الأمثال في واقع هذه الحياة، التي يمكن أن يعتبر بها الإنسان، أن يأخذ منها العِبرة، وأن يستوعب منها الموضوع، وأن ينظر من خلالها النظرة الصحيحة، والإنسان يحتاج في هذا الموضوع إلى تذكير متكرر للنفس؛ لأن النفس سُرعان ما تتأثر بضغط هذه الحياة، بضغط همومها، ورغباتها، ومشاكلها، إلى الدرجة التي قد تُضعِف من اهتمام الإنسان بأمر الآخرة، ومستقبله في الآخرة.
((إِنَّمَا مَثَلُ مَنْ خَبَرَ الدُّنْيَا))، خبرَ الدنيا: عرفها بحقيقتها، من خلال النظرة الواقعية لأحوالها وواقع أهلها، والمتغيرات التي فيها.
((كَمَثَلِ قَوْمٍ سَفْرٍ))، يعني مسافرين. ((نَبَا بِهِمْ مَنْزِلٌ جَدِيبٌ))، يعني لم ينسجموا مع المستقَر الذي كانوا فيه، كانوا في مستقر، بلد معين، لكنه جديب: لا ماء فيه، ولا نبات، فليس صالحًا للاستقرار المستمر فيه، فلم ينسجموا معه، وعرفوا أن هناك مستقرًا آخر، وبلدًا آخر، خصيب: فيه النبات، فيه الماء، فيه متطلبات الحياة، وضروريات الحياة التي تستقر بها الحياة، فاتجهوا إليه، وانتقلوا إليه، وسافروا إليه، وتحمَّلوا في سبيل الوصول إليه كل عناء الطريق، وكل متاعب السفر، وكل الظروف الصعبة التي عانوا منها نتيجةً لذلك؛ لأن لديهم أمل أنهم سيصلون إلى ذلك المستقر المريح، الذي سيرتاحون فيه بشكل مستمر، ولذلك هم يتحملون ما يعانونه من أعباء السفر بهدف الوصول إلى ذلك المستقر، الذي فيه الراحة، وتتوفر فيه متطلباتهم الأساسية التي سيرتاحون بها في حياتهم.
((فَأَمُّوا مَنْزِلًا خَصِيبًا))، اتجهوا إلى مستقر وبلد آخر. ((وَجَنَابًا مَرِيعًا))، هو خصيب، فيه الماء، والنبات، والمتطلبات الأساسية لهم، ((وَجَنَابًا مَرِيعًا))، جهة تتوفر فيها تلك المتطلبات لحياتهم، من الماء، والنباتات وغير ذلك.
((فَاحْتَمَلُوا وَعْثَاءَ الطَّرِيقِ، وَفِرَاقَ الصَّدِيقِ، وَخُشُونَةَ السَّفَرِ، وَجُشُوبَةَ الْمَطْعَمِ))، صبروا على أن يأكلوا من الزاد ما تيَّسر لهم، في سبيل وصولهم إلى ذلك المستقر المريح، حتى لو كان طعامًا جَشِبًا: ليس لينًا، ليس مُستَساغًا؛ لأنهم يعتبرون تلك المتاعب مؤقتة، في سبيل الحصول على مكسب كبير، وراحة ومستقر دائم ومريح.
((لِيَأتُوا سَعَةَ دَارِهِمْ، وَمَنْزِلَ قَرَارِهِمْ))؛ لأنهم سيصلون إلى تلك الغاية المريحة، فلذلك استبسطوا كل المعاناة، استسهلوها، صبروا عليها.
((فَلَيْسَ يَجِدُونَ لِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ أَلَمًا، وَلَا يَرَوْنَ نَفَقَةً مَغْرَمًا، وَلَا شَيْءَ أَحَبَّ إِلَيْهِمْ مِمَّا قَرَّبَهُمْ مِنْ مَنْزِلِهِمْ، وَأَدْنَاهُمْ مِنْ مَحَلِّتِهِمْ))، هذا مَثَل لمن خبر هذه الدنيا، وعرف حقيقتها، فهو عندما يتطلع إلى رضوان الله، إلى الجنة، إلى ما فيها من النعيم العظيم، وما يقرأه الإنسان في القرآن الكريم عن الجنة وما فيها، ما أعد الله فيها من النعيم العظيم: ينبهر، يندهش، يشتاق، يدرك أنه فعلًا فوز عظيم، يستحق منه بذل كل جهد، والصبر على كل عناء، وأن يبذل كل جهدٍ، وكل عملٍ يستطيعه، في سبيل الوصول إلى رضوان الله، وتلك السعادة الأبدية.
((وَمَثَلُ مَنِ اغْتَرَّ بِهَا كَمَثَلِ قَوْمٍ كَانُوا بِمَنْزِلٍ خَصِيبٍ، فَنَبَا بِهِمْ إِلَى مَنْزِلٍ جَدِيبٍ، فَلَيْسَ شَيْءٌ أَكْرَهَ إِلَيْهِمْ وَلَا أَفْظَعَ عِنْدَهُمْ مِنْ مُفَارَقَةِ مَا كَانُوا فيِهِ، إِلَى مَا يَهْجُمُونَ عَلَيْهِ، وَيَصِيرُونَ إِلَيْهِ))، واقع من اغتروا بهذه الحياة، لأنه مثلًا توفر لهم فيها بعض رغباتهم، بعض أهوائهم، بعض أطماعهم، فركنوا إليها، ونسوا مستقبلهم في الآخرة، ثم هم من سينتقلون عنها مرغَمين، فيكون حالهم حال من يفارق مكانًا كان خصيبًا، مرتاحًا فيه، إلى منزلٍ جديب، وسيفارق للأبد، وخسارته دائمة، فلذلك سيكون انتقالهم مكروهًا عندهم، شاقًا عليهم، وسيمثل أمرًا فظيعًا عندهم، مفارقتهم ما كانوا فيه، إلى ما سيتجهون إليه، ويصلون بغتةً إليه؛ لأن انتقالهم عمّا هم فيه من مُتَع هذه الحياة مفاجئ، لم يكونوا يحسبون حسابه، فينتقلون إلى الشقاء الأبدي- والعياذ بالله.
الإنسان ينظر النظرة الموضوعية، والله علَّمنا في القرآن الكريم أن نقول: {رَبَّنَا آَتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآَخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}[البقرة : من آية 201]، علَّمنا أن نجعل من هذه الحياة منطلَقًا إلى حياتنا القادمة الأبدية في الآخرة، أن نستفيد من نعم الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، فيما أنعم به علينا في هذه الحياة، وفق تعليماته وهديه، ثم أن نحسب حسابها، حساب مستقبلنا في الآخرة، وأن نوظف كل هذه النعم فيما يقربنا إلى الله، فنحوّل هذه الدنيا إلى مزرعة للآخرة، ثم أن نوطِّن أنفسنا على ألا نؤثِر هذه الحياة على مستقبلنا في الآخرة، لا في شيءٍ من الأهواء، لا في شيءٍ من الرغبات، لا في شيءٍ من الأطماع؛ لأن أي مكسبٍ يحصل عليه الإنسان في هذه الدنيا، في مقابل أن يخسر آخرته: هو شيءٌ تافهٌ، لا قيمة له، ولا وزن له، وخسارته رهيبة، كبيرة، خسر رضوان الله، والجنة، وسبَّب لنفسه نار جهنم، مقابل شيءٍ تافه، بسيط، زائل، مُنتهٍ.
ولذلك مثَّل الله لنا مثلًا مهمًا عن حقيقة هذه الحياة في القرآن الكريم عندما قال “جَلَّ شَأنُهُ”: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا}[الكهف: 45]، وقال “جَلَّ شَأنُهُ”: {قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآَخِرَةُ خَيْرٌ لِـمَنِ اتَّقَى}[النساء: من الآية 77].
إذا تأملنا في واقعنا، ما أكثر ما يؤثّر على الإنسان توجُّهُه لرغبات هذه الحياة، أطماع هذه الحياة، شهوات هذه الحياة، على حساب مستقبله في الآخرة، ما أكثر من يبيعون آخرتهم ويخسرونها من أجل الحصول على شيء من هذه الدنيا، والخسارة هنا؛ عندما يكون هناك إيثار لهذه الحياة الدنيا على الآخرة: خسران للآخرة من أجل شيءٌ من هذه الدنيا- والعياذ بالله.
بعد أن أكمل هذه الأُسس المهمة، التي يبني عليها الإنسان، فيما يتعلق بالتفاصيل، بدأ يتحدث عن التفاصيل العملية، والسلوكية، فيما يتعلق بمعاملتك مع الناس، فيما يتعلق بواقعك السلوكي، التربوي، الشخصي، العملي، قال “عَلَيهِ السَّلَامُ”: ((يَا بُنَيَّ اجْعَلْ نَفْسَكَ مِيزَانًا فِيَما بَيْنَكَ وَبَيْنَ غَيْرِكَ، فَأَحْبِبْ لِغَيْرِكَ مَا تُحِبُّ لِنَفْسِكَ، وَاكْرَهْ لَهُ مَا تَكْرَهُ لَهَا، وَلَا تَظْلِمْ كَمَا لَا تُحِبُّ أَنْ تُظْلَمَ، وَأَحْسِنْ كَمَا تُحِبُّ أَنْ يُحْسَنَ إِلَيْكَ، وَاسْتَقْبِحْ مِنْ نَفْسِكَ مَا تَسْتَقْبِحُهُ مِنْ غَيْرِكَ، وَارْضَ مِنَ النَّاسِ بِمَا تَرْضَاهُ لَهُمْ مِنْ نَفْسِكَ، وَلَا تَقُلْ مَا لَا تَعْلَمُ وَإِنْ قَلَّ مَا تعْلَمُ، وَلَا تَقُلْ مَا لَا تُحِبُّ أَنْ يُقَالَ لَكَ)).
نكتفي بهذا المقدار، إن شاء الله نتحدث على ضوء هذه التوصيات في المحاضرة القادمة.
وَنَسْأَلَ اللَّهَ “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” أن يُوَفِّقَنَا وَإيَّاكُمْ لمِا يُرضِيهِ عَنَّا، وأَنْ يَرْحَمَ شُهَدَاءَنَا الأَبرَارَ، وَأَنْ يَشْفِيَ جَرْحَانَا، وَأَنْ يُفَرِّجَ عَنْ أَسْرَانَا، وَأَنْ يَنصُرنَا بِنَصْرِه، إِنَّهُ سَمِيعُ الدُّعَاء.
وَالسَّــــلَامُ عَلَـيْكُمْ وَرَحْـمَــــةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتـــُه؛؛؛